من كربلاء الخبر - بغداد
جبال من النفايات على امتداد مساحة أكبر من 5720 متراً مربعاً، طوال طريق معسكر الرشيد جنوب شرقي بغداد، تحولت إلى مكب هائل تعتاش عليه أكثر من 800 عائلة، لم تحمها بقايا البلاستيك أو النفايات من خروجها من خط الفقر، واعتمدت هذه العائلات على العيش قرب المقلع ليصبح مصدر رزقها الوحيد.
وفي العاصمة بغداد وحدها هناك أكثر من 213 مقلع طمر صحي، 149 منها غير حاصل على الموافقة البيئية، بحسب أحدث إحصاء لجهاز المركز الإحصائي في العراق، كما تسكنها آلاف العائلات التي تضطر إلى مواجهة التلوث والأمراض ثم النبذ المجتمعي والإهمال الحكومي.
"لا تؤذيني فكرة عملي في المكب وإصابتي كل يوم بمرض جديد أو حتى العيش وسط النفايات فهذا قدري، لكن أتمنى إكمال دراستي، إذ ليس مسموحاً لي فهم يطردونني ويطلبون مني العودة للقمامة".
هذا حال الفتاة العراقية زهراء عباس (14 سنة) التي تستعد وبحماسة لتنبش آخر بقعة بقيت لها مع والدها في مقلع معسكر الرشيد، والتي تحول حجابها المغطى بالتراب إلى كمامة وتغطي يدها بقفاز، والذي على رغم سمكه ليمنع تسرب الزجاج والمخلفات، إلا أنه مهترئاً.
وبعد قضاء أكثر من 12 ساعة من التحدب لتجميع النفايات المختلفة، فستكون زهراء سعيدة بتحويل ما جمعته مع والدها إلى 15 ألف دينار عراقي (10 دولارات فقط).
أطفال في بيئة منهارة
ومنذ الرابعة فجراً تخرج زهراء مع والدها وهما يحملان عشرات الأكياس الفارغة استعداداً لملئها، ويقسمان الأماكن ونوع النفايات التي سيقومان بجردها وتعبئتها، ثم يبدآن رحلتهما في العمل.
وفي حديثها إلى "اندبندنت عربية" قالت الفتاة العراقية إن الكيس الواحد يباع بـ 1500 دينار عراقي (دولار واحد)، موضحة أن الوقت الذي تستغرقه لملء الكيس من ساعة ونصف الساعة إلى ساعتين، وأحياناً خمس ساعات بسبب توافد العائلات الأخرى.
وتقول زهراء التي لا تزال تتمسك بحلم العودة لمدرستها "نعم نتشاجر من أجل عبوة بيبسي أو كوكا ونحن في الحقيقة لا نعرف طعمها جيداً، لهذا يضطر والدي إلى أن يأخذني معه من أجل الحصول على عدد أكبر من المواد، كما ننتظر نضج أخي لمساعدتنا".
وأشارت إلى أنها لم تتمكن من البقاء في المدرسة القريبة حتى الصف الخامس الابتدائي بسبب رفض المعلمين وأولياء الطلبة وجودها هي وغيرها ممن يعيش في المعسكر، مضيفة "يقولون لنا أنتم أبناء النفايات وستجلبون إلينا الأمراض والبراغيث، وبماذا ستفيدكم شهاداتكم وأنتم أخيراً تعودون للطمر والمكبات؟".
هذه الأسئلة يرددها المعلمون، بحسب قول شهود آخرين، ومنهم كريم حسن (64 سنة)، وهو أحد العاملين في نبش النفايات والذي أكد أن أحفاده الأربعة تعرضوا إلى تعنيف نفسي وسوء معاملة من قبل إدارة المدرسة، أجبرتهم على تركها ورفض العودة لها.
وتابع، "لم تمنحنا الأيام مستقبلاً أفضل ودراسة وكانت معنا ظالمة، ونحن في الأقل نريد مستقبلاً أفضل لأولادنا، وما الذي يجب أن نفعله لنضمن عودتهم للمدارس؟".
وعلى امتداد معسكر الرشيد لا توجد أية مؤسسة تعليمية أو مركز صحي أو حتى خدمات للصرف الصحي أو الكهرباء في هذه الأماكن، وتكتفي بعض العائلات بالاعتماد على حفر الآبار وسحب الكهرباء من المناطق السكنية القريبة، ويعيش معظمهم في بيوت من التنك والبقايا البلاستيكية أو من إطارات السيارات.
يصمت كريم حسن قليلاً ثم يعود للحديث، "نعيش بالقدرة والصدفة وهذا المكان معزول عن الحياة البشرية الإنسانية الطبيعية، وكل شيء ضد الحياة الآدمية ولا أحد يعلم عنا شيئاً، فلم يصل إلينا دعم سوى سيارات البلدية وهي ترمي أطنان النفايات قربنا، وكأنها تقول ’خذوا هذا هو مصدر نجاتكم وعيشكم بالوقت نفسه،".
خطر آخر
وتواجه هذه العائلات خطر الكلاب السائبة، إذ يؤكد كريم وجود المئات من الحيوانات المتوحشة التي لا تتردد في عض الأطفال وتشويههم كذلك، مضيفاً "هناك أكثر من خمس حالات ضرب أو تشويه أسبوعية للأطفال، وآخرها حين تمكنوا من إنقاذ رأس طفل من الأكل في اللحظات الأخيرة".
وقال أيضاً، "أعلم أن هذا مكان يجذب الكلاب والحيوانات السائبة لكن أين نذهب ؟ فكثير من الأشخاص يصابون بداء الكلب ثم يموتون، فيما يصاب الجانب الأيمن من المكب بالجرب بسبب العدوى والتلوث، فالجميع ينبذنا ولا أحد يحاول مساعدتنا أو سماع شكوانا، وأعيش في هذا المعسكر بعد أن خرجت من مدينة مليئة بالمشكلات والقتل، ثم واجهتني الطبيعة بجانبها الأسود وتريد قتلى كذلك".
الابتزاز يلاحق عائلات المقلع
وتقرر كاملة جعفر (55 سنة) لوحدها كل يوم الخروج نحو البحث وتفضل النفايات المحترقة، إذ تكون سهلة الإفراز للعلب المعدنية، فيما تعاني الحساسية المزمنة وتحدب الظهر بسبب عملها الذي بدأت به منذ أكثر من 30 سنة في طمر النهروان، ثم جاءت إلى معسكر الرشيد.
وتابعت كاملة حديثها، "أفضل أن أعمل منظفة في حمامات المدارس أو الحمامات العمومية على هذه المهنة، لكن لا أحد يقبل محاولاتي العمل، وكلما سألوني أين عملت سابقاً وأجيبهم يغلقون الأبواب في وجهي، نحتاج لناس نظيفين ويعيشون في أماكن نظيفة"، معلقة بقولها "أصرف كل ما أجنيه على صحتي على رغم قلته".
وأكدت أنها تعمل لوحدها فيما يعمل ابنها مع زوجته بعيداً منها، مضيفة "لا أعرف طريق المعامل وأتفق مع شخص لديه مكبس حاويات ويجلب عماله للنفايات ويطلب مني تجهيزها له بصورة شهرية فقط، ثم يقتسم معي بالنصف مما يجب أن أجنيه، أي أنني ولو تمكنت من جمع 300 كيس في الشهر يكون المقابل 450 ألف دينار (340 دولاراً) وأحصل على نصفها، لكنني لا أتمكن في الأساس من تحقيق هذا المبلغ لضعيف بنيتي الجسدية".
ووفقاً لإحصاءات وزارة التخطيط العراقية فقد بلغ إجمال كمية النفايات المرفوعة في البلاد خلال عام 2023 نحو 11 مليون طن يقع معظمها في مواقع الطمر الصحي.
وبالعودة لكاملة فإنها تحدثت أكثر من مرة لزيادة سعر الكيس، لكن صاحب المكبس قادر على الاستغناء عن خدماتها سريعاً، "لذا أحاول كثيراً زيادة أعداد الأكياس من خلال العمل لأكثر من 18 ساعة نبش يومياً، وأحياناً لا أستطيع العمل لأشهر بسبب وجودي في المستشفى".
وختمت حديثها، "ليس هناك راتب تقاعدي أو معونة، فمهنتي تقف وتتوقف في وقت محدد، وما أجنيه شهرياً لا يوفر لي رفاهية العيش البشري، وحتى المياه الصالحة أشتريها، فماذا يعني تناول اللحوم؟ أنا أبحث في الطمر الصحي لأتمكن نهاية اليوم من تناول نفس البطاطا المتعفنة".
أرقام الجوع مرعبة
ووفقاً لأحدث الإحصاءات التي نشرتها وزارة التخطيط في العراق فقد بلغ الفقر في البلاد 25 في المئة، أي ما يقارب 11 مليون نسمة، فيما أرجع المتحدث باسم وزارة العمل نجم العقابي ارتفاع معدل الفقر إلى تداعيات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الناجمة من انخفاض أسعار النفط، مشيراً إلى أن الحكومة تسعى جاهدة إلى دعم المتضررين من الفقر في البلاد عبر زيادة بعض الرواتب وتحسين نظام البطاقات التموينية.
وأضاف العقابي، "العراق يواجه تحديات في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتآكل الخدمات العامة واستمرار انخفاض مستويات المعيشة، لكن لدينا حملات كبرى للعائلات التي تعيش في الطمر الصحي لتوفير الرعاية لها وتدوين بياناتهم المعنية بالخدمات والصحة، ومنح السلال الغذائية لهم".
ويشير آخر تقارير الأمم المتحدة إلى تحسن مركز العراق 20 درجة في مؤشرات الفقر، فبعد أن كان في المرتبة الـ 86 وصل الآن إلى الـ 66، أي أن الوضع أصبح أفضل.
كما أعلنت مجلة "غلوبل فاينانس" في أحدث إحصاء لها هذا العام وقوع العراق في المركز الـ 75 ضمن قائمة أفقر 100 دولة، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي بالقوة الشرائية للفرد 11.742 دولار.
"مهما بلغ العراق من ترتيب فهو لا يتناسب مع مقدار ما يملكه من موارد وثروات من بينها أكثر من 100 مليار دولار متعلقة بتصدير النفط فقط"، على حد قول المتخصص في الشأن الاقتصادي محمد الراوي.
وأضاف، "الحروب والصراعات أسهمت في تفشي الفقر والعوز، كما أن التغير المناخي وجفاف الأنهار أجبر العشرات من العائلات على ترك أماكنها واللجوء إلى مدن لا تزال تصارع من أجل المياه".
وعلى رغم مرور أكثر من 20 عاماً على الحرب، إلا أن ما تلاها من حروب فرعية ساعدت وبشكل كبير في فقدان عشرات المواطنين وظائفهم ومنازلهم وخسارتهم كل شيء، وكان آخرها الحرب مع تنظيم "داعش" مما أجبرهم على البحث عن بدائل أو العيش في العشوائيات.
ويرى أن متوسط دخل الفرد لا يتناسب مطلقاً مع حجم الغلاء المعيشي في العراق بسبب التضخم وغسل الأموال، معلقاً "يتعامل مع نابشي النفايات أو عمال النظافة أو العاملين في مجاري الصرف بمعزل عن الآخرين، إذ لا تؤمن الحكومة لهم حتى رواتب تقاعدية أو دفتر صحي أو حصة غذائية، مما يصعب الأمر عليهم أكثر".
تجمع للأمراض
وليس الجانب الاجتماعي وحده من يفرض حصاراً على الساكنين في الطمر، فصحياً تسهم الأمراض والأوبئة والعقارب والأفاعي في دخول أكثر من 20 شخصاً يومياً إلى المستشفيات، وفق ما تؤكده طبيبة النسائية في مستشفى الزعفرانية شهد فائق، وهو المستشفى الأقرب إلى المكب.
وأضافت، "هناك أكثر من 20 شخصاً يدخلون إلى العناية الفائقة، كما أن النساء يصبن بالتهاب المجاري البولية الحادة، وهن أكثر عرضة للإصابة بها من الرجال، وأحياناً يتطور الأمر ويصل إلى التسمم بالدم، والذي قد يؤدي إلى خطر الوفاة أو الإجهاض".
وتسهم النفايات الملوثة بجروح عدة وخطرة لمن يحاول النبش، وبعضها يقتحم الدم ويسبب التهابات وأمراضاً كثيرة منها الجرب والحصبة والسل والأكزمة والتهاب الجلد والسلمونيا، وصولاً إلى التهاب الكبد الفيروسي، إذ تكون البيئة خصبة لكل المعاناة الصحية.
وتؤكد الطبيبة شهد أن كثيراً من النساء العاملات في المكب يأتين بعد تفاقم الحال ويكون من الصعب السيطرة عليها، وبعضهن يصبن بأمراض دائمة تمنعهن وهن في أعمار متوسطة من استمرار العمل.
أما أخصائية الأطفال زهراء قاسم فتوضح أن كثيراً من الأطفال لم يتمكنوا من الحصول على اللقاح الثلاثي مما أدى إلى وقوعهم فريسة للقمل والجرب وداء الكلب، خصوصاً أن الفرد الواحد قد يصاب بالقمل أكثر من مرة في العام.
وتابعت، "الأمر لا يتعلق فقط بالنظافة الشخصية أو نصائحنا لهم بتعريض ثيابهم ومفارشهم للشمس والتجفيف، حتى لو فعلوا ذلك ولو التزموا كلياً بإجراءات النظافة الشخصية، فإن المياه التي تصل إليهم تكن ملوثة للغاية وتحمل الميكروبات وتساعد في انتشارها".
ونبهت قاسم إلى أن بعض الحالات تتطلب تدخلاً جراحياً لكنهم لا يملكون الأموال اللازمة مما يجعلهم يعودون للمعسكر وهم محملون بالخيبة، أو عليهم انتظار الدور في المشافي الحكومية، وحينها سيكون الوضع ازداد سوءاً وقد تفارق بعض الحالات الحياة.
أما الجانب النفسي فلا أحد يعلم عنه شيئاً، ويصل المستشفى كثير من محاولات الانتحار بين الشباب والنساء، وتقول الدكتورة زهراء إن "العشرات من محاولات قتل النفس تأتي من المكبات، فأحدهم حاول حز رقبته بعبوة مياه غازية".
ويسهم الوضع البيئي والاجتماعي السيئ للمكان في رفضهم استمرار الحياة، كما أن كثيراً من النساء تحاول الإجهاض بطرق غير آمنة، لأنهن لا يردن لأولادهن تجربة مرارة العيش تحت ظل الأمراض وتنفس السموم والعمل بينها.
وختمت الطبيبة زهراء حديثها بالقول إنه "من النادر رؤية إحدى المنظمات العالمية وهي تتجه نحوهم، ولا تمنح المستشفيات الحكومية أي استثناء لأصحاب المهن الخطرة، فالتجاهل والإهمال هما منبعان لازدياد الحالات المرضية".
مستقبل مظلم
وتظهر أحدث إحصاءات وزارة الصحة والبيئة العراقية أن الأمراض السارية تسببت في ما يقارب 17 في المئة من إجمال حالات الوفاة في البلاد، مما يجعلها ثاني أكبر سبب للوفيات والأمراض.
ويؤكد معاون المدير العام لدائرة المخلفات الصلبة والبيئة في أمانة بغداد كريم عذاب جياد، أنهم يحاولون توفير شروط السلامة لمواقع الطمر غير الحكومية، لكن هناك أملاً في زج العائلات العاملة في مشاريع ستقام من قبل مستثمرين لمصانع إعادة تدوير، وهي ضمن الحقيبة الاستثمارية للأعوام المقبلة.
وتابع، "يتم العمل على مصنع لمعالجة النفايات وإنتاج طاقة كهربائية بـ3 آلاف طن في منطقة النهروان شرق العاصمة، وفي الوقت نفسه قدمت أكثر من 17 شركة استثمارية متخصصة بفرز وتدوير ومعالجة النفايات طلب الحصول على موقع الطمر الصحي في أبو غريب غرب بغداد، وستكون الأولوية لهذه العائلات التي تتعرض لابتزاز مستمر ومساومة من قبل أصحاب المصانع الأهلية مثل تأخير تسليم أجورهم أو تقليلها، وتهديدهم بتبديلهم بآخرين، فيضطر كثيرون إلى قبول تجميع إضافي بمبالغ أقل".
ويضيف عذاب أنه تقررت إزالة أطنان النفايات من معسكر الرشيد وتحويله إلى متنزه، ثم العمل على إضافة مجمعات سكنية وترفيهية للمكان، لكن العائلات التي تمكث فيه سترحّل وسيتم العمل على توفير مسكن لها قبل البدء في المشروع.
المصدر: اندبندنت