أن تصلَ إلى منصب رئيسِ وزراءِ العراق بشخصيةٍ سياديةٍ مستقلّةٍ هدفها الوحيد استعادة الدولة، فكأنما تحفر الجبلَ بإبرة، فدون ذلك الأمر عقبات وحواجز أهمّها حجم الجبل، وحجم إرادتك، وحجم صمودك، وحجم تعبك، وحجم القيود التي ستُفرض من أكثر من جانبٍ مصحوبة بحجم العقبات والأفخاخ المحيطة بك.
المهمةُ على ضراوة صعوبتها تقترب من المستحيل، إنما في قاموس مصطفى الكاظمي إيمانٌ كبير برعاية الله وبالعراقيين التوّاقين إلى الخروج من مختبرات الديكتاتورية وجمهورية الخوف و«جمهوريات» المشاريع الخاصة وسلطات الأمر الواقع والميليشيات العابرة للحدود وكواتم الصوت.
هذا الإيمان يكفي قائد المهمة شرف وضْع الحجر الأساس لمشروعِ بناءِ الدولةِ مُراهِناً على وعي وتَحَضُّرِ مَن وزّع الوعيَ والحضارةَ قبل آلاف السنين للعالم.
بقدر ما يَنجح الكاظمي في حفْر المزيد من صخور الجبل، بقدر ما يحشد اتساعاً في قاعدةِ بناءِ الدولة. وبقدر ما تَصْرفه السياساتُ المُمَنْهَجَةُ المُسَيَّرَةُ من الخارج عن هدفه، بقدر ما يَضْعف مشروعُ الدولة، ولذلك فلا خيار أمامه إلا التزام برنامجه الذي حَمَلَهُ بيمينه عندما تَسَلَّمَ رئاسةَ الحكومة كون الخيارات الأخرى مدمّرة للعراق والعراقيين.
مَن يعرف الكاظمي، يعرف أنه يواجه جملةَ التحديات بصمتِ الواثقِ وبطريقته الخاصة. ولذلك فكل تصريحاته المعلَنة تنسجم مع البرنامج الذي وصل به، سواء تَعَلَّقَ الأمرُ بمكافحة الإرهاب، أو دعْم بناء الأجهزة الأمنية، أو رفْض تحوُّل العراق إلى صندوق بريد إقليمي - دولي، أو السعي لإعادة ترميم الوحدة الوطنية، أو استعادة العلاقات الطبيعية مع جيران العراق وخصوصاً مع عمقه العربي... لكنه أيضاً ليس بغافلٍ عن «الدولة العميقة» التي تَأسّستْ منذ إطاحة صدام حسين وأَنْتَجَتْ ديكتاتوريةَ ميليشياتٍ تَحَكَّمَتْ بالدولة على أنقاض ديكتاتورية الحزب... فالعائلة... فالشخص.
كان الكاظمي شاهِداً، بل وفي قلْب المشاريع التي أُقِرَّتْ لحُكْمِ عراق ما بعد صدام، على أساس قيام دولةٍ تعدُّدية تَحْكُمُ فيها غالبيةٌ «وطنية» وتُحْتَرَمُ فيها الأقليةُ «الوطنية»، ويتم فيها تَداوُل السلطة بشكل ديموقراطي وعبر صناديق الاقتراع، على أساس أن الدمارَ الذي تَسَبَّبَ به الحُكْمُ السابقُ دافِعٌ لإنضاج التجربة - النقيض وخصوصاً في ضوء المآسي التي ضربتْ كل بيتٍ عراقي تقريباً.
لكن الذي حصل معروفٌ، حيث وَضَعَتْ أطرافٌ خارجيةٌ ثِقْلَها لدعْم قوى داخلية مستخدِمةً كل الأسلحة، بما فيها الطائفي والمذهبي والمناطقي والعشائري، لتكريس أمرٍ واقعٍ محروسٍ بميليشيات... إذا اتفقتْ، فعلى المحاصصة وحلْب الدولة، وإذا اختلفت فعلى تجميد الدولة وتعطيل الاستحقاقات وتكريس الانقسامات والتقاتُل وتسعير المشهد العراقي وتشريع الأبواب أكثر للنفوذ الخارجي.
يعرف الكاظمي ذلك جيداً، ويعرف أن التسويةَ التي أدت إلى وصوله إلى رئاسة الحكومة ليست إقليمية - دولية فحسب، بل وطنية داخلية بامتياز فَرَضَها التزامه ان يكون مظلة لكل مكونات المجتمع العراقي بمن فيهم الشبانٌ المنتفضين في كل مناطق العراق بهدف إعادة الروح إلى حالةٍ عراقية ترفض التجارةَ الطائفية والمذهبية والخسائرَ المهولة الناجمة عنها.
يَسمع الكاظمي نصائح كثيرة بأن يتخلى عن السير بين الألغام ونقاط التوتر، وأن يبدأ هو المواجهةَ قبل أن يبدأها الآخَرون. بعضهم يقول ذلك عن إيمانٍ ومحبةٍ وحرْصٍ، وبعضهم يحاول دفْعَه إلى الفخّ الذي تريده الميليشيات بأن ينصرف عن بناءِ الدولة إلى معركةٍ طويلةٍ قد ينتصر بها في النهاية، لكن تكلفتَها كبيرة على العراق والعراقيين.
لن يكون الإيراني حريصاً على مصلحة العراق ومصالح العراقيين أكثر من أهل البلد، رغم كل نظريات الولاية والوكالة والعقائد العابرة للحدود. ولن يكون الأميركي مُحِبّاً للعراق وشعبه أكثر من العراقيين، وقد دلّت التجارب على أن مقاربتَه لبلاد ما بين النهرين تَحْكُمُها، إما المواجهة مع إيران، وبالتالي تحويل وجوده هناك إلى منصات متبادلة للصواريخ، وإما التسوية والصفقات مع إيران، وبالتالي الوقوف شاهد زور أمام تَمَدُّدِ «الدولة العميقة» داخلياً.
وبالعودة إلى كيفية تركيب السلطة بعد إطاحة النظام السابق، يتضح كم أن العنجهيةَ الأميركيةَ كانت الصورة، وكم أن الاستفادةَ الإيرانيةَ كانت المضمون.
لا خيار أمام الكاظمي سوى الاستمرار في معركة بناء الدولة، وتطوير الأداء العام للمؤسسات، وتطهير الإدارة، وتنقية الأجهزة الأمنية، وجعْل التنمية هاجساً، ووقف الفساد والهدر ومحاسبة كل مَن تثبت إدانته بالتورط في سرقةِ مالٍ عام، وإعادة توجيه الموارد والثروات في واحدةٍ من أغنى دول العالم إلى خزانتها الشرعية، فهي حقٌ للناس وليس للميليشيات والأحزاب، وعودة العراق إلى العرب وعودة العرب إلى العراق... وكلما قويتْ الدولةُ تَقَلَّصَتْ الدويلاتُ وصارتْ مواجهتُها أَسْهَل.
يحلم مَن يعتقد أنهم سيَتْركون الكاظمي يعمل وفق هذا البرنامج، ويُخْطئ مَن يظن أنهم لن يزرعوا الطريقَ بالشوك والمسامير والحواجز والألغام، لكن صاحب مؤسسة «الحوار الإنساني» لن يتخلى عن الحوار ولا الإنسان، والمديرُ التنفيذي لمؤسسة «الذاكرة» لن يتنكّر للتوثيق الذي قام به نصرةً للضحايا ومَنْعاً لسقوط ضحايا جدد... مصطفى الكاظمي ليس الرجل الذي يريد تسجيلَ انتصارٍ فوق وطنٍ مهزوم، وليس الرئيس اللاهث لتعليق نجمةٍ مُكَلَّلَةٍ بالدم فوق أكتافه.