آخر هذه الحوادث، وقعت، الأربعاء، باغتيال الناشطة المدنية البارزة الطبيبة ريهام يعقوب، والتي ورد أسمها ضمن قائمة إيرانية نشرتها في 2018 وكالة مهر للأنباء، حرضت ضد ناشطين وشخصيات معتدلة واتهمتهم بـ"إثارة أعمال الشغب والعنف".
وفي بيان لها، الخميس، كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق أن "حالات ومحاولات الاغتيال للناشطين المدنيين بلغت تسع حالات في محافظات البصرة وذي قار وميسان جنوب البلاد خلال شهر آب الحالي لوحده".ولا تكاد أخبار الاغتيالات تهدأ في البصرة حتى تعود مجددا، حيث شهدت المدينة موجة مماثلة وقعت بعيد اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر الماضي واستهدفت ناشطين ومتظاهرين وصحفيين دعموا مطالب المحتجين، من أبرزهم مراسل قناة دجلة أحمد عبد الصمد زميله المصور التلفزيوني صفاء غالي في فبراير الماضي.
في تغريدة على تويتر وصف المرشح السابق لرئاسة الحكومة العراقية عدنان الزرفي "سلسلة الاغتيالات بحق الشباب الأعزل في البصرة ماهي إلا إعلان حرب ضد الدولة"، مشددا على ضرورة انطلاق "صولة كبرى يقودها جهاز مكافحة الإرهاب لتنظيف البصرة من هؤلاء الشرذمة، فهم أشد خطرا من داعش".
فلماذا هذا الإصرار الإيراني على إسكات كل الأصوات المعارضة لنفوذ طهران في هذه المحافظة وما الذي تعنيه البصرة للإيرانيين؟
تعد البصرة من أغنى محافظات العراق لاحتوائها على معظم الحقول النفطية الضخمة في البلاد، وتحتوي على المنفذ البحري الوحيد للعراق، كما أن فيها العديد من المنافذ الحدودية سواء مع الكويت أو إيران.
ورغم ذلك تعد البصرة واحدة من مدن قليلة في الشرق الأوسط دون نظام فعال لمعالجة المياه. وكانت تتمتع بمرافق صحية متطورة في الستينات لكنها انهارت قبل عقود، لتتحول ممرات البصرة المائية إلى مجارير يتسبب المناخ الصحراوي الحار في زيادة الروائح الكريهة المنبعثة منها.
وخلال السنوات التي تلت سقوط النظام العراقي السابق في 2003، سيطرت قوى إسلامية شيعية على مقاليد الحكم في المدينة، وتُتهم القوى السياسية والميليشيات المدعومة من طهران، والتي تنتشر بشكل ملحوظ في البصرة، بتهريب مئات البراميل من النفط الخام العراقي بشكل غير شرعي والاستيلاء على موارد مدينة البصرة الغنية.
ويقول الصحافي العراقي منهل زويد إن "إيران تنظر للبصرة على أنها مصدر تمويل رئيس لها وللميليشيات والقوى التابعة لها، ولا تريد أن تخسر هذه الميزة".
ويضيف لموقع "من كربلاء الخبر "من هذه المدينة تمر معظم صادرات إيران إلى العراق، والتي تدر على طهران مليارات الدولارات سنويا، كما أنها تعد الممر الرئيسي لدخول المخدرات إلى العراق، ومنها إلى دول الخليج".
وشهدت البصرة ومدن جنوب العراق منذ عام 2003، تزايدا ملحوظا في معدلات تعاطي المخدرات، حيث تعلن القوات العراقية بمعدل شبه يومي إلقاء القبض على أفراد وعصابات يتاجرون بالمخدرات التي تقول السلطات إنها تدخل بشكل غير شرعي عبر الحدود الإيرانية.
وإلى جانب الأهمية الاقتصادية، ترى طهران في البصرة تهديديا حقيقيا لنفوذها في العراق بشكل، وجنوب البلاد بشكل خاص.
فمن هذه المدينة، ذات الغالبية الشيعية، انطلقت أولى شرارات الاحتجاج ضد النفوذ الإيراني في البلاد، وكان ذلك في عام 2018، عندما أحرق محتجون غاضبون القنصلية الإيرانية في المدينة.
وفي مقابلة سابقة مع موقع "من كربلاء الخبر "قال الكاتب والمحلل السياسي سرمد الطائي إن "أساس الحركة الاحتجاجية التي نراها اليوم في العراق انطلقت من البصرة في عام 2018".
ويرى الطائي، المتحدر من مدينة البصرة، أن "إيران لديها ثأر مع شباب مدينة البصرة، وربما سنشهد خلال الأيام المقبلة شوطا أخر من المواجهة المؤسفة بين الطرفين، إذا لم تتحل القوى السياسية العراقية بالشجاعة لاستعادة القرار والسيادة الأمنية والسياسية من الميليشيات الموالية لطهران".
توقعات الطائي هذه أصابت بالفعل، حيث تواصل الميليشيات والفصائل الولائية (مصطلح يطلق على الجماعات المسلحة التي تتبع المرشد الإيراني علي خامنئي) حملاتها ضد الناشطين، ليس في البصرة فقط وإنما في معظم مدن جنوب البلاد.
ومؤخرا أعرب ناشطون مدنيون وقادة حراك شعبي في محافظة بابل وسط البلاد، عن مخاوفهم تجاه حملات التصفية التي تجري حاليا من قبل مليشيات مسلحة ومجاميع حزبية.
ويقول الناشط المدني، أحمد ضياء، في تصريح صحفي تابعته وكالة من كربلاء الخبر إن "ما تشهده البصرة من حملة اغتيالات منظمة يندرج ضمن سياسية تكميم الأفواه الوطنية"، غير مستبعد أن تكون تلك الحملة "برعاية مليشيات مدربة على مستوى عال، هدفها كبح جماح الحراك الشعبي الذي بدأ يؤثر على طبيعة المشهد السياسي العراقي".
وكشفت مصادر في الحراك الشعبي ل وكالة من كربلاء الخبر عن "وجود مخطط استباقي ضخم يستهدف ناشطين وقادة حراك شعبي في محافظات الوسط والجنوب، بالتزامن مع مرور عام على اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر الماضي".
ووفقا لهذه المصادر "تعتزم الميليشيات الموالية لطهران تكثيف عمليات الاغتيال ضد الناشطين وقادة الحراك الشعبي خوفا من عودة زخم الاحتجاجات"، الموجهة بالأساس ضد الفساد والنفوذ الإيراني في العراق.
واندلعت الاحتجاجات في بغداد في الأول من أكتوبر 2019، بسبب قلة فرص العمل وضعف الخدمات، لكنها سرعان ما امتدت إلى المحافظات الجنوبية، لتتحول فيما الى الدعوة لإسقاط الطبقة السياسية وانهاء النفوذ الإيراني في العراق.
وسقط أكثر من 550 متظاهرا وأصيب آلاف آخرون بعد أن عمدت قوات الأمن إلى إطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع لفض المظاهرات، فيما قامت ميليشيات مدعومة من طهران بنشر قناصين على أسطح مبان عالية قاموا باستهداف جموع المحتجين.
وأجبرت الاحتجاجات رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، المقرب من طهران، على الاستقالة، لتتم تسمية رئيس جهاز المخابرات السابق مصطفى الكاظمي خلفا له في مايو الماضي.