ولم يكن تكليف السوداني جديداً، ولقبه نسبة إلى عشيرة السودان في الجنوب من الطائفة الشيعية، وجلهم من محافظة ميسان مهد الحضارة الأكدية التي تبعد حوالى 300 كم جنوب بغداد، لكن المهندس الزراعي الذي خاض تنافساً شرساً بين مرشحي الإطار التنسيقي الذي يقوده نوري المالكي رئيس ائتلاف "دولة القانون"، الذي حسم حلفاؤه أزمة الترشيحات باستبعاد الصف الأول من قادة الإطار، ليختاروا مرشحاً توافقياً مقبولاً من الجمهور، بعد تسعة أشهر من الانسداد السياسي، الذي سببه صراع المالكي وتحالفه الإطار التنسيقي وخصمه التيار الصدري الذي تخلى عن البرلمان وضحى بـ73 مقعداً نيابياً بخطوة صادمة وغير واضحة الدوافع، سوى أن التيار رفض حكومة توافقية تضم بين ثناياها "الفاسدين".
انسحاب أربك المشهد
وكانت صدمة حقيقية لكل الأوساط السياسية التي عولت على وجود التيار الصدري الذي كان يشكل ضمانة تشكيل حكومة من أغلبية تنادي بمكافحة الفساد وإحالة رموز الفساد والمتجاوزين على المال العام والقانون إلى المحاكم، لكن كل ذلك قد تبدد لحظة انسحاب مقتدى الصدر ونوابه الـ73، ليعوض البرلمان الحالي، بسرعة لافتة بالأعضاء الاحتياط مما صعد رصيد الإطار المنافس إلى حوالى 160 نائباً، أمسوا الكتلة الأكبر في ليلة وضحاها ليشكلوا الحكومة.
شبح التسريبات
لكنهم وقعوا في مطب استبعاد الرجل القوي نوري المالكي من الترشح على غير رغبته، بسبب التسريبات التي أعلنها مدون وناشط عراقي، أنهى آمال المالكي بالسلطة والحكم، جراء استثارة أتباع التيار الصدري والمجتمع العراقي لما تضمنته تلك التسريبات التي قال عنها المالكي في لقاء متلفز، "زادت شعبيتي وقربتني إلى الترشح". لكن الواقع يقول غير ذلك تماماً، لأنها ضغطت على حلفائه وفرضت استبعاد ترشحه لئلا يتفجر الشارع الصدري الغاضب، بل وإبعاد الصف الأول من رموز تحالف الإطار التنسيقي عن ترشيح أسمائهم. وبعد شد ومد وجزر خلصوا إلى مرشح تهدئة بالإجماع ألا وهو محمد شياع السوداني، بهدف رفع العراقيل أمام تشكيل الحكومة وحسم إعلان الكابينة الوزارية.
ترشح السوداني أحرج الكرد
هذا الترشح للسوداني أحرج القوى الكردية المتصارعة على مرشح رئاسة الجمهورية، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزانى والاتحاد الوطني الذي يقوده بافل الطالباني، اللذين يتنافسان على مرشح رئاسة الجمهورية ريبر أحمد مرشح الديمقراطي وبرهم صالح الرئيس الحالي مرشح الاتحاد، لكن إشاعة رافقت ذلك بمرشح تسوية بينهما لكنهما ظلّا متمسكَين بمرشحيهما.
رفض معلن ورضا حذر
الإطار التنسيقي كما تسرب في بيوت السياسة العراقية حاول إعادة فتح قنوات الاتصال مع زعيم التيار الصدري من أجل أخذ الموافقة المبدئية بل ورضاه حول الأسماء المرشحة، لكن أحداً من أتباعه لم ينف أو يؤكد ذلك، غير أن الكاتب المقرب للقوى الشيعية ليث شبر أكد "حسب معلوماتي من مصادر موثوقة أنه لا اعتراض من (مرجعية) النجف على السوداني لتشكيل الحكومة القادمة، وأغلب الظن أن موقف السيد الصدر لن يختلف عن ذلك، لكن تبقى العقبة الوحيدة هي انتخاب رئيس الجمهورية".
شخصية السوداني ومؤهلاته
شخصية السوداني التي تميزت بالاعتدال والقبول الذي اتضح من ترشحه ثلاث مرات للمجلس النيابي واستيزاره مرات عديدة وتوليه مناصب تنفيذية أكدت قدراته على الإدارة الناجحة وركزت احترام الناس لترشحه، مع وجود أصوات غاضبة عليه كونه كان عضواً في حزب "الدعوة الإسلامي" تنظيم العراق، وهو غير حزب الدعوة الذي يقوده نوري المالكي، لكنه استقال عام 2019 إبان تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) الشعبية معترضاً على العنف والقمع الذي رافقها من السلطة، لكن آخرين يؤكدون أن استقالته جاءت لفتح آفاق مرشح تسوية سبق وأن رفضه التيار الصدري واعتبره موقفاً مناوراً من أجل التكليف ما حال دون ترشحه.
غير أن الكاتب والمحلل العراقي قاسم الغراوي يشير إلى أن "السوداني من الشخصيات المعتدلة، في خطابها وغير متزمت ويرتبط بعلاقات إيجابية مع الكتل السياسية، وقد منحته تجربة الإدارة الخبرة التراكمية في غالبية مفاصل الدولة"، لكنه يضيف أن "منصب رئاسة مجلس الوزراء سيفرض صعوبات في اتجاهين: التفاوض مع الكتل السياسية وفق ثقلها الانتخابي وترشيح الوزراء للكابينة الوزارية ومدى تطابق مواصفات الوزراء ضمن رؤيته، إضافة إلى مدى قدرته على تطبيق البرنامج الحكومي الذي أقره الإطار التنسيقي على اعتبار أنه خدمي، كما سيواجه أزمة غضب الشارع وضغطه في حالة عدم الالتزام بالوعود والقرارات والخدمات التي يقدمها في برنامجه الحكومي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التيار الصدري متأهب لتأجيج الشارع ضد الحكومة الجديدة للضغط عليها لإجراء انتخابات مبكرة".
الطريق غير معبد بالورد
لم تكن مهمة السوداني ميسرة بالتأكيد فهناك من يتهمه من العراقيين بأنه جزء من منظومة الإطار التنسيقي الذي يقوده المالكي وسطوة الولائيين الذين يرجح كثيرون أنهم يستميتون للسيطرة على الملف الأمني من خلال الاستلام المباشر لوزارات الداخلية والأمن الوطني والمخابرات سيطرة تامة، وإخراج جميع العناصر التي أدخلها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي خلال عام ونصف العام من تسلمه رئاسة الحكومة التي لا توازي مشروع ما يسمونه "المقاومة" كما تسرب في الإعلام العراقي المحلي. كذلك التأكيد على فرص مدير مكتب المالكي السابق على مكتب الرئيس الجديد الذي سيطلع رئيس الإطار أولاً بأول بكل تفاصيل عمله من أجل التنسيق المباشر وهذا ما لايقبله الصدر قطعاً لأنه يسلم الأمن العراقي إلى الموالين لإيران، ويُرجح تعرض التيار الصدري إلى حملة ملاحقة بل ويخشى التصفية بعد الشكوك التي أودعتها التسريبات الأخيرة وعمقت الخلافات إلى أقصى حدودها بين الصدر الذي طالب بمحاكمة المالكي وإحالته للقضاء والمالكي المصر على فرض قبضته القوية على الحكومة المقبلة.
الاحتكام للشعب
لكن معلومات مقربة من المرشح الجديد لرئاسة الحكومة التي توشك الولادة القيصرية، وسط تجاذبات سياسية لا تعد أو تحصى وتقاطع مصالح حادة وصراع أذكاه انسحاب الصدريين من المشهد وترقبهم وغضبهم، وكذلك سعي قوى الإطار استعادة المناصب الأمنية التي أخرجهم منها الكاظمي المتمرس بالمخابرات، تفيد بأن السوداني سيلجأ للشعب ويحتكم لديه، وهو يهم بتنفيذ المشروع الخدمي الذي أقرته منظومة الإطار التنسيقي، وسيلجأ إلى التحكم بكابينة فنية من الوزراء المحترفين بتخصصاتهم من خلال معايشته لهم، ويرجح أن يضع التوجيهات السياسية التي تسعى إلى أن تجره للمناكفات والصراع جانباً، وشفيعه في ذلك معرفته عن قرب بحجم الفساد السياسي واندماجه مع الشارع، الذي رحب باستيزاره. ويصف كاتب عراقي عن مهمة السوداني والتحديات التي يواجهها وفق المثل الشعبي العراقي "رطبة بين سلايتين" كناية عن صراع الصدر والمالكي حول مهمة السوداني الصعبة.